13‏/05‏/2011

عنز ولو طارت



د. ميسرة طاهر
كانا يسيران معا، وفجأة توقف أحدهما وأشار بيده نحو جسم أسود يقف على الأرض وقال لصاحبه: انظر لذلك الغراب، وقال الثاني: أي غراب هداك الله إنها عنزة، واستهجن الأول ضعف بصر صاحبه وقال: إنه غراب ألا ترى منقاره وذيله؟ ورد الثاني: أي ذيل ومنقار ألا ترى قوائمه الأربع؟ وازداد تهكم الأول على الثاني فما كان من الأول إلا أن رمى حجرا باتجاه الجسم الذي اختلفا عليه فطار.فقال الثاني: لا تحاول معي: إنها عنزة ولو طارت. منطق عنزة ولو طارت هو منطق الجامدين الذين لا يغير فكرهم حوار ولا حجة ويشعرون أن أفكارهم ومعتقداتهم مهما كانت هي جزء منهم فإن تنازلوا عن بعضها فكأنهم تنازلوا عن جزء من ذواتهم لذا فهم يصرون على الاعتقاد بصوابية ما يؤمنون به فيزداد جمودهم وتقل مع الزمن مرونتهم.ويتصف هؤلاء الناس الجامدين بالالتزام بعادات جامدة في التفكير وفي الطعام والشراب والنوم واللباس والمشي وترتيب الأشياء وغيرها، والجمود أمر ضار في كثير من الأحيان كما نعلم، وقد لا يحتاج الأمر لبرهان لإثبات ضرره فقد كان الجمود أهم عقبة واجهت الأنبياء مع أقوامهم ذلك أن الجامد وخاصة إذا كان الجمود في فكره هو فرد لا يستطيع أن يحيد عما اعتاده من عادات فكرية أو معتقدات، وسيجد نفسه يقول مقالة من سبقه:{وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلا قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ابَآَءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى أثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} (سورة الزخرف، آية 23 ) ذلك أن الجامد لا يستطيع أن يساير غيره في بعض الأحيان، وهو فرد يريد من الآخرين أن يغيروا نمط حياتهم لمسايرته وإلا فلن يستطيع أن يقبلهم أو يقبلوه، وهو من ناحية ثانية لا يرى الصواب إلا عنده، ولا يستطيع أن يرى صوابا عند غيره فيحرم نفسه من خير الآخرين وربما حرمهم من خيره.لقد كان لهذا الجمود آثاره الضارة عبر التاريخ ولاشك أننا قد نتساءل ولكن كيف يمكن أن نقلل من جمود أولادنا ؟ بمعنى كيف يمكننا أن نقلل من مسببات صنع شخصيات اكتئابية ؟ ذلك أن الجمود هو الأساس النفسي للشخصية الاكتئابية، والجواب يكمن في مقدار مرونتنا كمربين، فالمربي الجامد الذي لا يستطيع أن يتنازل أمام رأي غيره إذا ثبت له صوابه لن يستطيع أن يربي أفرادا مرنين، وعلينا أن نعي حقيقة علمية هي أن المرونة لا تصنع بالمواعظ ولكنها سلوك يراه الطفل ويعايشه ويتعامل معه فيتبناه ويتكون في داخله من خلال تبني من يربونه لهذه المرونة، وكل مرب يستطيع أن يعتذر لمن يربيهم إذا أخطأ يمكنه أن يتفاءل بانتقال هذا السلوك لغيره، لأن اعتذاره لمن يربيهم سيريهم ويبرهن لهم أن الكبير يمكن أن يخطئ وأنه يملك القدرة والرغبة في الاعتذار عن خطئه،ومن يستطيع أن يتراجع عن سلوك خاطئ بعد أن يثبت له خطأه يمكنه أن يستبشر بانتقال مرونته لغيره، لذا فأولادنا بحاجة إلى أن يرونا ونحن نتراجع أمام رأي صائب سمعناه من غيرنا، وبحاجة ليروا منا امتثالا في بعض الأحيان لآرائهم حين تكون صائبة،لأن هذا الامتثال لآرائهم يعزز ثقتهم بآرائهم، ويجعلهم يروننا ونحن مرنون أمام أي رأي آخر غير رأينا، ويرون أن هدفنا هو البحث عن الحق والصواب وليس التمسك بآرائنا والجمود عندها، بهذه الطريقة فقط يمكنهم أن يتنازلوا عن آرائهم حين يثبت لهم خطأها.